رغم أن أغلب القراءات المتهافتة اجمعت على أن حكومة يوسف الشاهد لم تخالف التوقعات في خطوطها الكبرى وانها كانت نتاجا لتوافقات وترضيات محسومة سلفا، إلا أن ما أعقب إعلان هذه الحكومة من تحفظات مرتبكة ومفاجئة لعدد من الأطراف وعلى رأسها الممثلة في تركيبة الحكومة أكدت بأن الشاهد قد نجح في صياغة خلطة حكومية مفخخة أثارت توجس اغلب الأطراف وخلفت لديهم صدمة ارتدادية وحيرة ناتجة عن عدم استيعاب المنطق الذي قاد الشاهد لتحضير هذا «الكوكتيل» المُخيف والمُخيب لانتظارات اغلب القوى النافذة التي كانت تشتغل في الظل وفي العلن لغنم أكثر نصيب ممكن من مساحات النفوذ داخل الحكومة القادمة.
القراءة المتأنية في تركيبة الخلطة الحكومية التي قدمها يوسف الشاهد لا يمكن الا ان تؤكد وجود عقل ذكي يقف وراء نسج هذه الفسيفساء المُحيرة، وذلك ما تؤكده الاستنتاجات الكبرى التالية:
_ في علاقة بحركة النهضة وعلى خلاف ما يُسوق على انه توسيع في رقعة تمثيلها في الحكومة وان الشاهد قد استجاب لشرط «ثلاثة زائد ثلاثة» الذي فرضته النهضة، فان القراءة العميقة في تركيبة الحكومة تبرز ان النهضة قد ابتلعت طعما مسموما بقبولها لثلاث حقائب وزارية وثلاث كتابات دولة مُحاصرة ومعُومة وسط نسيج حكومي يتركب في اغلبه من عناصر تتنافر سياسيا وفكريا مع الحركة وسوف تشكل مكابح مزعجة لها في المستقبل، وبالتالي لا امل للنهضة في الزحف على مساحات نفوذ تتجاوز حدود تمثيليتها في تركيبة الحكومة، وهو ما نجحت فيه سابقا في ظل حكومة الصيد عندما كانت تعتمد «التكتيك الانغماسي» للتحكم في توجهات الحكم الكبرى.
أما النقطة الثانية المتعلقة بحركة النهضة فتتمثل في الاسلوب الذكي الذي اعتمده مهندس الحكومة لإضعاف وزن الحقيبة التي اسندت لزياد العذاري رغم انها تبدوا في الظاهر ثقيلة، فالمطلعين على ملف الصناعة والتجارة يدركون أن هذه الخطة لا معنى لها اذا ما تم فصلها عن الرافد الرئيسي في الاقتصاد وهو ملف الطاقة والمناجم الذي يشكل وحده بوابة رئيسية في التعاطي مع قوى الخارج. هذا فضلا عن تعيين العذاري كاتب دولة مُكلفا بملف التجارة وله دراية واسعة به .
هذه المعطيات تؤكد أن الحضور العددي لحركة النهضة داخل التركيبة الحكومية الجديدة وهذه المعطيات اعتمدها بشكل مغاير يوسف الشاهد مع حزب حركة نداء تونس وهذا ما يبدو أن حركة النهضة قد تفطنت اليه متأخرة من خلال التصريحات التي ابدت تحفظا على تركيبة الحكومة وحجم تمثيل النهضة فيها على غرار تصريحات القيادي في الحركة علي العريض اليوم والتي خالفت تماما التصريحات المستبشرة التي اطلقتها قيادات نهضوية مباشرة عقب الاعلان عن تركيبة الحكومة.
_ النقطة الاساسية الثانية التي تبرز دهاء العقل المُشكل للحكومة هو طريقة «التخلص» من حزب الاتحاد الوطني الحر وذلك بترفيع سقف الشروط في وجه قائده سليم الرياحي ودفعه الى الانسحاب من الائتلاف الحاكم رغم «تورطه» منذ البداية في التهليل لتكليف الشاهد بتشكيل الحكومة، ولعل هذا الدهاء بدا مضاعفا في طريقة ابعاد «ياسين ابراهيم» والطريقة المرنة التي أوصدت في وجهه أبواب الوزارة وذلك بالاكتفاء باستدراج أهم العناصر اللامعة في حزبه لاسناد حقائب لها، وهو ما شكل نوعا من الاختراق ونقل الازمة الى اروقة القيادة «الأفاقية»، وبالتالي نجح الشاهد في تخطي احراج كبير بتجنب «توزير» ياسين ابراهيم الذي كان هدفا لمطاعن كثيرة وصلت الى حد التشكيك في ذمته في ما يتعلق بملفات الاستثمار والعلاقات مع الدوائر المالية في الخارج.
_ أما «الاختراق الأكبر» الذي نجح الشاهد في احداثه من خلال انتقاء فريقه الحكومي فيتعلق بأحد أهم الشخصيات اليسارية النقابية وهو عبيد البريكي الذي كان الورقة الثانية التي سحبها الشاهد بعد سقوط ورقة منجي الرحوي، ولعل الدهاء في هذا المستوى يتعلق بانتقاء شخصية مترامية النفوذ والتأثير داخل النسيج اليساري والنقابي وقد خلف اختيارها ارباكا باديا في صفوف مكونات الجبهة الشعبية وكذلك داخل بعض الاوساط النقابية التي نجح الشاهد في استمالة جزء كبير منها بانتقائه لمحمد الطرابلسي النقابي المخضرم وتكليفه بملف الشؤون الاجتماعية.
ولعل النقطة التي أثارت كثيرا من الحبر والتي تعلقت بتكليف سمير الطيب بحقيبة الفلاحة هي التي شكلت أهم حلقات الغموض في اختيار الشاهد، وهي التي تشكل كذلك نقطة تدلل على دقة الاختيارات، فالجميع يدرك أن حقيبة الفلاحة بقيت منذ سنة 2011 خاضعة لنفوذ حكومة «الترويكا» وهي حقيبة حساسة خلافا لما يتوقعه كثيرون حيث تم اغراق مفاصلها بتعيينات المتمتعين بالعفو التشريعي العام منذ سنة 2011.
الشاهد يدرك تماما أن مهمة رجل مثل سمير الطيب لن تكون مهمة تقنية في ادارة مرافق الوزارة بل وبالاساس هي مهمة سياسية تتمثل أساسا في «تنقية» هذه الوزارة من شوائب الماضي.
_ تركيبة حكومة يوسف الشاهد لم تباغت الأوساط السياسية اليسارية منها والاسلامية فحسب بل خيبت أطماع لوبيات المال والأعمال الضاغطة التي كانت تراهن على توسيع مساحة اختراقها للنسيج الحكومي والتي نزلت بكل ثقلها للاطاحة بحكومة الحبيب الصيد نظرا لتضخم اطماعها في المرحلة التي أعقبته.
ولعل النقطة التي خالفت كل القراءات الجاهزة هي عدم خضوع الشاهد للمجموعات المتضادة داخل نداء تونس التي نزلت بكل ثقلها خلال مفاوضات تشكيل الحكومة لتثبيت نفوذها واعادة نشر اذرعها في مفاصل القرار الحساسة.
ما يُحسب للشاهد أيضا هو احتفاظه بدعامات الحكم وعدم تغيير الوزارات الحساسة وعلى رأسها وزارة الداخليّة وهو ما قرأه البعض على أنه رسالة من ساكن قصر القصبة تثبت أنه مؤمن بفكرة الدولة وحرمان اللوبيات و اصحاب الدكاكين السياسية من اي موطئ قدم داخل الحكومة.
جميع هذه الاعتبارات التي تفضي مجتمعة الى الاستنتاج بأن يوسف الشاهد قد ابدى ذكاء كبيرا في انتقاء فريقه الحكومي لم تمنع وجود نشاز غير مبرر في تشكيلة حكومته والمتمثل اساسا في انتقاء شخصية مهدى بن غربية كوزير مكلف بالعلاقات مع المجتمع المدني خلفا لكمال الجندوبي، وتعود غرابة الاختيار لافتقاد بن غربية لخصال الشخصية المتزنة التي يمكن ان تشكل جسر حوار بين القصبة وبين باقي الطيف المدني نظرا لما عُرف عن الرجل من تشنج في الخطاب. هذا فضلا عن افتقاد بن غربية لأي سند سياسي كمي أو نوعي يُفسر اختياره لتدعيم الائتلاف الحاكم، كما لم يراع الاختيار ما يُثار حول الرجل من تساؤلات حول طبيعة النفوذ المالي والاقتصادي الذي يتمتع به.