كتب توفيق عيّاشي
اختار القيادي عبد الكريم العبيدي الذي كان موقوفا على ذمة قضيّة اغتيال محمد البراهمي أن يخوض حملة اعلاميّة صُحبة فريق دفاعه لدفع الشبهات التي التصقت به بعد سنة من الايقاف ومن التأويلات التي اعتبرت أن العبيدي هو مفتاح دائرة التورط الأمني والسياسي في جريمتي الاغتيال السياسي واحدى حلقات ما عُرف بمنظومة الأمن الموازي التي سادت خلال السنوات الأولى بعد 14 جانفي 2011.
ولئن حاول صانعوا دعاية تبرئة العبيدي استغلال قرار اطلاق سراحه لتسويقه على أنه قرينة براءة مطلقة له، فان طبيعة الخطاب الذي قدمه العبيدي ومجموعة دفاعه واتجاه الحملة الاعلاميّة التي احتفت بتسريحه قد وسّع أفق الاستنتاجات المتعلقة بالقضيّة وعرّى بعض جوانبها السياسيّة التي تُعتبر هي جوهر القضيّة وكثف من مناخ الشكوك التي تحوم حول موقف العبيدي ومن ورائه في القضية.
التهافت السياسي الفاضح
اختار عبد الكريم العبيدي ولسان دفاعه ان يفسروا كل الجوانب المتعلقة بالشبهات المنسوبة له بمنطق المؤامرة التي تستهدف "قيادي أمني نظيف" حاول التصدي لمنظومة أمنية وديوانيّة فاسدة في مطار تونس قرطاج فتم الانتقام منه عبر الزج به في قضيّة اغتيال سياسي. ولمزيد توضيح هويّة "المنظومة الفاسدة" التي يتهمها العبيدي قدم الرجل خلال ظهوره في "قناة التاسعة" نهاية الاسبوع اشارات تقدم السبب الرئيسي لاستهدافه بأنه يرتبط أساسا بكشفه لعصابات تهريب عملة وتحديدا_وهذا الأهم الذي تهافت العبيدي على تأكيده_ في اتجاه الامارات العربيّة المتحدة وليس في اتجاه أي بلد آخر، وقد أكد حرفيا أنه اليوم ممنوع من دخول دبي _ رغم أنه كان موقوفا ومُحجرا من السفر ولم يتقدم بأي مطلب تأشيرة للسفر الى دولة الامارات المتحدة_.
كلام العبيدي أطلق العنان لتساؤلات عدة تبحث في التناقضات الكثيفة التي تشوب رواته وطبيعة الاشارات السياسيّة التي تحملها والتي يمكن تصنيفها ببساطة على أنها انخراط واضح في خطاب بعض القوى الاسلاميّة الذي عادة ما يُلمح الى تورط محور الامارات العربيّة المتحدة وبعض القوى المحسوبة عليه في ملف الاغتيالات السياسيّة و "التآمر على الثورة"، وهو الخطاب الدارج لأغلب اطياف الحركة الاسلاميّة والتفريعات المتناسلة من المجموعة التي كانت محيطة بالرئيس السابق المنصف المرزوقي، ومن المعلوم أن هذا خطاب يخدم اليّا المحور القطري التركي المُتهم بدوره بدعم التنظيمات الاسلامية المتشددة ومن بينها تنظيم "أنصار الشريعة" الذي تتهمه التحقيقات بتنفيذ جريمتي اغتيال البراهمي وبلعيد.
خطاب عبد الكريم العبيدي القيادي الأمني الذي يُقدم نفسه كرجل أمن تقني مُستقل لم يختلف عن خطاب قائد فريق دفاعه السياسي سمير بن عُمر ولا عن خطاب أي سياسي اخر له ارتهانات وحسابات تتجاوز هاجس الدفاع عن النفس كمتهم، وتتجاوز حدود رتبته الامنيّة المُجردة وهذا ما برز في اتهامه لجزء من المنظومة الأمنيّة القديمة بالفساد ووصمها سياسيا ومُجاملته للقيادات التي تم تعيينها مؤخّرا، وهذا ما يغذي لدى جزء من المراقبين استنتاجات تدفع في الاتجاه المعاكس الذي يُراد لقضية اغتيال البراهمي أن تسير فيه، وقد بلغت حدة الانفلات السياسي في خطاب العبيدي حد استهزائه من تلويح هيئة الدفاع في قضية البراهمي بتدويل القضيّة ومناكفة بعض الشهود والتعليق على سير القضيّة في جانبها السياسي العام .
الدفاع المُغرّق
خطاب عبد الكريم العبيدي الذي كان مُفخخا بالمواقف السياسيّة جاء على حساب نجاحه في الاقناع بالاجابة عن نقاط تفصيلية غامضة في ملفه كقضيّة السيارة التي اعترف أنه استأجرها من "صديقه" المسؤول عن التشريفات في حركة النهضة والتي كانت محل تفتيش، ورغم ذلك احتفظ بها وتردد في اعادتها لصاحبها دون تقديم مُبرر مقنع لذلك، وغير ذلك من المسائل المحوريّة الواردة في التحقيق والمتعلقة بطبيعة مهامه داخل مطار تونس قرطاج وعمله على رأس فرقة حماية الطائرات وعلاقته بحركة النهضة ورئيسها راشد الغنوشي.
عبد الكريم العبيدي برز أيضا في صورة الأمني المُحاط بفريق دفاع عُرف بتجنده للدفاع عن السلفيين الجهاديين والعناصر المتهمة في قضايا الارهاب، كما برز العبيدي في صورة المُحتفى بتسريحه من قبل الة اعلاميّة قريبة في عمومها من الأوساط الدينيّة المُتشددة، وهي مُعطيات لا يمكن فصلها عن السياق العام للقضيّة. كما لا يمكن تجريدها من المناخ السياسي الذي يحتكم خلال الفترة الأخيرة الى تسويات كبرى في علاقة بتصفية ارث الماضي وحسم جميع الملفات الكبرى بما في ذلك ملف الاغتيال السياسي.