شدّت قضية ملابسات إغتيال الزعيم النقابي الوطني فرحات حشاد، منذ حدوثها يوم 5 ديسمبر 1952 إلى تاريخ تسليم الرئيس الفرنسي « فرنسوا هولاند» الوثائق المتعلقة بها إلى عائلة الفقيد أثناء زيارته الأخيرة لتونس (4 - 5 جويلية 2013)، انتباه الرأي العام التونسي عموما والاتحاد العام التونسي للشغل تحديدا بحكم تكفّل المنظمة الشغيلة منذ البداية برفع قضية عدلية ضدّ مقترفي الجريمة المنسوبة إلى منظمة إرهابية فرنسية «اليد الحمراء».
تشكلت هـــذه المنظمــة الإرهـابية سنة 1952 لترويـع وتصفية الـوطنيــــيــن الدستـوريين الصامدين والمنخرطين في العمل السري٬ الرافضـــين سيـــاسة الدولة الاستعمارية الفرنسـية التي كانت تمارس سياسة فرض «السيادة المزدوجة» وكان الاتحاد العام التونسي للشغل بقيادته ومناضليه في مقدمة المواجهة بحكم مكانته في الحراك الاجتماعي التونسي وباعتباره إحدى المكوّنات الأساسية لجبهة المقاومة التي تشكلت حول الحزب الدستوري الجديد. وفي بداية سياق الثورة الوطنية التي اندلعت في شهر جانفي 1952، تبوّأ الزعيم فرحات حشاد مكانة متميزة معية الزعيم الهادي نويرة في الديوان السري المشرف على قيادة المقاومة الوطنية إثر اعتقال الزعيم الحبيب بورقيبة يوم 18 جانفي 1952 وسفر الزعيم صالح بن يوسف واستقراره في المهجر يوم 13 جانفي 1952 لتدويل القضية التونسية برفع شكوى ضد الدولة الفرنسية إلى جمعيّة الأمم المتحدة لعدم إيفائها بالسير بالبلاد التونسية نحو الاستقلال.
والسؤال البديهي الذي يطرحه المؤرخ عند تناول ملف الاغتيال هو: ماذا حدث طوال سنة 1952 حتى يؤول الأمر إلى اغتيال الزعيم فرحات حشاد ؟ من اقترف هذه الجريمة ؟ ما هي الملابسات السياسية، المحلية منها والفرنسية والدولية، التي حفّت بهذه الجريمة ومهّدت لها ؟ ماذا يمكن القول عن سلطة استعمارية أقدمت أو وافقت أو علمت بمشروع الاغتيال ولم تحرك ساكنا ؟ ولماذا استهدف فرحات حشاد بالذات حتى يكون ضحية جريمة دولة ؟
في الحقيقة، شرعت في جمع عناصر للإجابة عن هذه الأسئلة إثر إدراج وثائق التحقيق بمحفوظات المعهد الأعلى لتاريخ الحركة الوطنية (المعهد العالي لتاريخ تونس المعاصر حاليا) وذلك سنة 2001 والتي تسلمها خلال حفل حضره مدير المعهد ورئيس جامعة منوبة حينذاك، الأستاذ المنصف الهرقلي، وبحضور جمع من الباحثين العاملين بالمعهد وكذلك زوجة القاضي المرحوم إبراهيم عبد الباقي الذي كانت بحوزته وثائق التحقيق إذ تولى دراسة ملف الزعيم فرحات حشاد قبل أن تنهي سلطات الحماية مأموريته وتسندها إلي قاضي التحقيق الفرنسي «سولي».
* المصادر الأرشيفية والصحفيّة الفرنسيّة والتونسيّة:
اعتمدنا في تحقيقنا على ما تيسّر الاطلاع عليه من المصادر الأرشيفية الفرنسية ولاسيما الأرشيف السياسي للحزب الاشتراكي الفرنسي المودع بالديوان الجامعي للبحوث الاشتراكية بباريس والذي يتضمن موقف القادة الاشتراكيين من عملية الاغتيال ومرتكبيها والوثائق العسكرية المحفوظة في قصر « فنسان» بباريس فضلا عن الوثائق الديبلوماسية المتوفرة في مركز الأرشيف الديبلوماسي بمدينة «نانت» والتي تخصّ أرشيف الإقامة العامة لفرنسا بتونس زمن الحماية؛ و كذلك الأرشيف المحفوظ في وزارة الشؤون الخارجية الفرنسية.
أما في ما يخصّ المصادر التونسية فقد استقينا المعلومات من مؤسّسة الأرشيف الوطني ومركز التوثيق الوطني والمعهد العالي لتاريخ تونس المعاصر، في حين تضمن أرشيف وزارة الخارجية الأمريكية والبيت الأبيض وثائق حول قضية اغتيال فرحات حشاد.
ومن المصادر الصحفية الفرنسية اعتمدنا على ما نشر في جريدة Le Populaire de Paris الإشتراكية وفي جريدة L’Humanité الشيوعية وكذلك على تحقيق اتسم بالشجاعة والدقة أنجزه الصحفي «روجي ستيفان» Roger Stéphane حول ملابسات الاغتيال في صحيفتي L’Observateur (أعداد 18 ديسمبر 1952 و8 جانفي و 31 ماي 1953 ) وفي عدد صحيفة France - Maghreb لشهر مارس 1954 الذي تم حجزه من قبل المقيم العام «بيار فوازار» وتسبب لصاحبه تتبعات عدلية، فضلا عن إيقاف جريدة L’Observateur التي كشفت تورط المقيم العام «دي هوت كلوك» في عملية الاغتيال وطالبت بمحاكمته. كما تسنى لنا الرجوع إلى صحيفة Le Monde التي غطت الندوة الصحفية التي عقدها الوزير صالح بن يوسف والأمين العام للحزب في بهو جمعية الأمم المتحدة إثر اغتيال فرحات حشاد، بالإضافة إلى جريدتي Le Figaro وLe Monde Libertaire التي ورد في عددها المؤرخ في ديسمبر 1956 شهادة المفكر الاشتراكي الداعي للسلم «فليسيان شلاي» Félicien Challaye الذي استشهد بما نشرته جريدة L’Action الناطقة الرسمية للحزب الحر الدستوري الجديد باللسان الفرنسي في عددها المؤرخ يوم غرة أكتوبر 1956 و الذي أكد فيه أن «عملية اغتيال فرحات حشاد تمثل جريمة دولة تم اقترافها بتعاون وثيق بين الإقامة العامة بتونــس وإدارة البوليس وحفظتها العــدلية الفرنسية لمساسها بمصلحة الدولة». وتحتل شهادات المعاصرين للحدث والفاعلين ذي الصلة بالحركتين النقابية والوطنية التونسية مكانة هامة في استجلاء خفايا الاغتيال وحقيقة مرتكبيه نذكر منها شهادة المقاوم علية قعيب أصيل مساكن التي أوردها الباحث عبد الحميد العلاني في « لم يناموا على الذل. شهادات شفوية لعدد من المناضلين المقاومين من تونس والقيروان والساحل»(تونس٬ 2006) والتي تتوافق مع مذكرات البنباشي محمد بن سلامة التي أوردها البشير بن سلامة في» بين الجذور والعبور. التكوين، النشأة، الأصول»(تونس٬ الأطلسية للنشر٬ 2015) والتي تشير إلى « تكوين خلية تجسّس دستورية وطنية في صلب القيادة العليا لجيش الاحتلال «التي كان يديــرها العقيد الكـولونيــلDe La Paillonne منذ سنة 1951 والتي تمكنت من رصد مشاركة العقيد المذكور في إدارة المنظمة الإرهابية الاستعمارية «اليد الحمراء» وإشرافه على عملية إغتيال فرحات حشاد يوم 5 ديسمبر 1952. ويبـــدو أن التعليمات لاغتيال العقيد «دي لا بايون»، التي نفذها المقاوم اليعقوبي يوم 24 جويلية 1954، كانت صادرة عن الطيب المهيري (شهـــادة المناضلة شاذلية بوزقرو من جهة والشيخ حسن العيادي من جهة أخـــرى) بعد أن تأكـــد مـــن «عـــلاقة دي لا بـــايون بعصابة «اليد الحمراء» إضافة إلى انضمامه إلى الماصونية» كما لمّحت إليها «يوميات شــارل سوماني تونس 1947 - 1957».
(نيس٬ مركز المتوسط الحديث و المعـــاصر٬ 1979 ٬ ص 83 - 84) عـــلاوة على تصـــريح المـــاصـــوني «أنطـــــوان كـــولونـــــا» Antoine Colonna رئيـــس الحـزب الاستعماري الفرنسي بتونــــس («حزب المتفوقين») ورئيـــس الجـــامعة العامة للموظفين الفرنسيين بتونس ونائب فرنسيي تونس في مجلـــس «الاتحاد الفرنسي» إلى صحيفة «لو موند» في عددها الصادر في 28 جويلية 1954 إثر أغتيال العقيد «دي لابايون. وقد ذكر «أنطوان كولونا» في هذا التصريح أنه تلقى رسالة من العقيد قبل اغتياله بثلاثة أسابيع أي في بداية جويلية 1954، تاريخ بداية المفاوضات السرية بين منداس فرنس والحبيب بورقيبة بصفة غير مباشرة عن طريق النائب الاشتراكي «آلان سافري» والصحفي اليساري المناهض للاستعمار «روجي ستيفان» وممثل الحزب الدستوري بفرنسا محمد المصمودي، وتفيد الرسالة « بأن الحلّ الوحيد يتمثل في إرجاع الأمن كليا وبسرعة بكافة الوسائل المتاحة وإعلام الرأي العام أنّ فرنسا لن تتفاوض مع القتلة والمتسببين في الشغب».
وتضاف إلى وثائق الإدانة وإثبات تورط السلطة الفرنسية في عملية الاغتيال رسالة اليساري الفوضوي «دانيال قيران» إلى النائب الاشتراكي « ألان سافري» كاتب الدولة الأسبق بوزارة الشؤون الخارجية الفرنسية المكلف بالشؤون التونسية والمغربية في حكومة «غي موللي» (جانفي 1956 – 1957) المؤرخة في 15 ديسمبر 1952 وتتضمن الرسالة ما سمع وعلم من الشهيد في 25 نوفمبر 1952 قبل اغتياله ببضعة أيام (5 ديسمبر 1952) والتي ذكر فيها اتصالاته بالمناضل الصادق المقدم عضو الديوان السري والطاهر بن عمار عضو لجنة الأربعين قبل لقائه مع الفقيد الذي أشعره بتهديدات الاغتيال التي وصلته عبر البريد؛ كما نشير إلى شهادة المناضل الاشتراكي « ألان سافاري» التي ذكر فيها أن المقيم العام «دي هوتكلوك» كان يعلم بمخطط اغتيال الشهيد ولم يمنع ذلك وبالتالي كان شريكا في الجريمة المقترفة وأن الذي اغتال الزعيم حشاد هو من عناصر الجندرمة الفرنسية La garde mobile. ونختم سلسلة الشهادات والمذكرات بما أورده أحد الأعضاء الناشطين في عصابة «اليد الحمراء» الذي لم يتورّع في مشاركته في أعمال العصابة بـ« قتل الأبرياء» حسب قوله بل أفادنا بأسماء الفرنسيين الأربع الذين كان لهم دور مباشر في عملية الاغتيال وهم «جون لوسياني» و« روفينياك» و«رويزي» و«أويزيرات». توفي الأوّل متأثّرا بجراحه إثر مداهمة مجموعته الإرهابية محل شعبة دستورية في بن عروس في مستهل سنة 1956 وتم تهريب الثلاثة المتبقين نحو مرسيليا عن طريق بنزرت ( أنطوان ميلرو اليد الحمراء. الجناح العسكري السري للجمهورية. موناكو٬ منشورات روشي٬ 1997).
وقد لفتت انتباهنا كثافة التقارير الاستخباراتية التوليفية لنشاط النقابات المستقلة في الجنوب أي قبل ميلاد الاتحاد العام التونسي للشغل. و يعود سبب ذلك إلى «طبيعــــة المركـــزية النقابية الثورية وارتباطها بالحركة الدستورية وقدرتها على شلّ مؤسسة الحماية»، كما أشار إليه التقرير المؤرخ في 27 جوان 1945 الموجّه من القيادة العليا لجيش الاحتلال إلى قيادات الحاميات العسكرية بكل من تونس وسوسة وبنزرت وقابس ويضيف التقرير «أن التنظيم النقابي الجديد الذي نشأ أواخر سنة 1944 يرغب في أداء دور سياسي إلى جانب دوره المهني، على غرار الكنفدرالية العامة للشغل. ولئن ساعد أحيانا على مواجهة بعض الأنشطة السياسية المتطرفة، فهو يظل عنصرا يصعب إلى حد كبير ترويضه من قبل السلط نظرا إلى أنه يتركب كليا من الأهالي، و أغلبهم من الدستوريين ( من جملة ثمانية آلاف منخرط٬ قرابة سبعة آلاف منهم محسوبون على التيار الوطني)، علاوة على أن القياديين يجابهون خطر تجاوزهم من قبل قواعدهم. نحن أمام جمع من الرجال الصادمين القادرين على إثارة هذه القلاقل أو جعلها تتفاقم. إذا انخرم النظام العام٬ سوف تدعو السلطة المدنية الجيش إلى التدخل. لذلك وجب إخطار السلطة العسكرية بطبيعة هذه الحركة النقابية».
كان ذلك السبب الذي جعل في تقديرنا «مصلحـــة التوثيــق الخارجي والتجسس المضاد» الفرنسية SDECE تبادر بتكوين «الجناح العسكري الموازي لوزارة الداخلية والذي أطلقت عليه اسم اليد الحمراء» تحسّبا لتصفية الزعامات النقابية الثورية المناهضة للاستعمار.
*المصدر : مجلة ليدرز