"يا غنوشي يا سفّاح يا قتّال الأرواح"... من أبرز الشعارات التي كانت حاضرة في مسيرات منظّمة أو عفوية تعبيرا عن غضب الشعب من الحركة التي كانت الحاضر الأبرز على سدّة الحكم لعقد من الزمن.
شعار ظلّ يلاحق الأب الروحي وشيخ الحركة منذ إغتيال الشهيدين شكري بلعيد ومحمد البراهمي بعد أن وُجّهت أصابع الإتهام لقيادات النهضة وجهازها السرّي لتورّطهم في الإغتيالات السياسية التي عاشتها البلاد.
ملفات أرهقت النهضة
الإتهامات التي إستندت على وثائق وأدلة وملفات للجهاز السرّي للحركة قدّمت للقضاء وأكد محامو هيئة الدفاع عن الشهيدين أن وكيل الجمهورية بمحكمة تونس البشير العكرمي الذي يقبع حاليا تحت الإقامة الجبرية، تستّر وتورّط في طمس الحقائق والأدلة التي تدين الحركة سواء بصفة مباشرة أو غير مباشرة.
إتهامات تلاحق النهضة لم تقتصر على الإغتيالات السياسية وما تخفيه من حقائق حول الأطراف التي جنّدت وحرّضت وخطّطت بل إن عديد الملفات الأخرى التي ظلت معلّقة منذ سنوات مازالت ترهق الحركة وظلّت تلاحقها والتي لا تقل أهمية عن هذا الملف.
تسفير الشباب تحت مسمّى "الجهاد" ليصبح الشباب التونسي الحاضر الأبرز وقود المحرقة السورية بأكثر من 4000 شاب، وفق تقرير أممي صدر سنة 2015، جعل بلادنا المصدّر الأبرز للمتطرفين والإرهابيين بعد الثورة
تمويل الجمعيات التي تفاقم عددها فجأة، ليتبيّن أنها جمعيات تتخفّى تحت غطاء "الأعمال الخيرية" وفي باطنها جماعات إرهابية في شكل خلايا نائمة تلعب أدوارا مهمّة في تبييض الأموال والتجنيد والتسفير والتدريب وحتى جلب الأسلحة
جمعيات وإن حلّ العشرات منها وأحيلت ملفات أخرى على أنظار القضاء في تهم متصلة بتمويل الإرهاب وتبييض الأموال، إلاّ أن حقيقة ظهورها وأنشطتها لازالت غامضة
كثيرة هي الملفات والإتهامات التي تلاحق النهضة منذ بروزها على الساحة السياسية التونسية وخوضها تجربة الحكم، تجربة وإن بدت في ظاهرها ناجحة بتسجيل حضورها في المشهد البرلماني التونسي، إلا أن حقيقة الأرقام تثبت أن النهضة تتقهقر حتى بعد إعلانها على أنها حزب سياسي عصري تفصل بين السياسي والدعوي
النهضة نهضتان...
النهضة التي كانت رمزا للإنضباط الحزبي وقرارات مجلس شوراها عاشت بدورها تصدّعا داخليا لتصبح النهضة "نهضتين" الصقور والحمائم
تصدّع داخلي سبقه تفتت لأحزاب إختارت التحالف مع الحركة من أجل السلطة، فيما ظلّت الحركة تصارع في صمت من أجل الصمود الذي كشفت إستقالات أبرز قيادييها على غرار حمادي الجبالي ولطفي زيتون وعبد الحميد الجلاصي وغيرهم من القيادات، أنه صمود زائف
نزيف الإستقالات لم يتوقّف خاصة بعد تشبّث الشيخ برئاسة "حركته"، متجاهلا القوانين الداخلية التي كان شاهدا بنفسه على وضعها.
إنشقاقات أخرى داخل الحركة إضطرت مجموعة المائة للخروج إلى العلن يطالبون فيها شيخهم بالتخلّي عن الرئاسة والإلتزام بنص القانون الداخلي
الفوز المفخّخ
تصدّع وإستقالات وعرائض عملت قيادات الحركة على تخفيف وطأتها بالتذكير في كلّ مرّة على أنها صاحبة الشرعية الإنتخابية والفائز الأبرز في الانتخابات وأنها الحركة التي تتصدّر المشهد السياسي وتتحكّم فيه عبر تحالفات صدمت الناخبين
الفوز المفخّخ للحركة والذي كان بمثابة رسائل تحذيرية لقياداتها بتراجع شعبيّتها وتوسّع الفجوة بينها وبين الشعب، كشفته الأرقام، إذ تآكل خزّانها الانتخابي الذي بلغ المليون والنصف في إنتخابات 2011 ليصبح 950 ألف صوت في 2014 و560 ألف صوت فقط في إنتخابات 2019
فوز وإن بدا في ظاهره إنتصار، إلا أنه يكشف فشل الحركة في الحفاظ على خزّانها الإنتخابي الذي يكسبها "الشرعية الانتخابية" وحضورها البارز في المؤسسة النيابية بخسارتها لـ37 مقعدا تحت قبّة البرلمان، من 89 مقعدا في 2011 إلى 52 مقعدا فقط سنة 2019، ربما لغة الأرقام لم ترق لقيادات الحركة الذين تشبّثوا بـ"رصيد نضالي" نجحوا في إستثماره عبر صناديق الاقتراع
الهاروني على صفيح ساخن...
"رصيد نضالي" وإن بدا غامضا لدى البعض لما يشوبه من عنف وإرتباط لإسم الحركة بأعمال عنف وتفجيرات زمن حكم بن علي، إلا أن البعض الآخر تجاهل الأحكام والإعترافات بتعليق الأسباب والدوافع على شماعة "الديكتاتورية"
"نضال " يستوجب التعويض ورُصدت من أجله المليارات في صندوق خصص لصرفها للمناضلين وأشعلت موجة رفض جديدة لعدم رصد هذه المليارات للدولة بهدف الخروج من الأزمة الاقتصادية التي تعيش على وقعها البلاد منذ الثورة.
إنتقادات وموجة من الغضب على مواقع التواصل الاجتماعي لم تثن رئيس مجلس شورى النهضة عبد الكريم الهاروني على مطالبة رئيس الحكومة المقال هشام المشيشي بضرورة تفعيل صندوق الكرامة لتعويض ضحايا الاستبداد قبل عيد الجمهورية لهذه السنة
"لا تراجع ولا سماح بالمزيد من الإنتظار للحصول على تعويضات... في حال عدم الإلتزام بالتاريخ المحدد فإن الشباب الجديد لحركة النهضة سيأتي على الأخضر و اليابس"، هكذا هدّد الهاروني وسط أنصاره في إجتماع جماهيري لصرف التعويضات
تصريحات وتهديد سرعان ما تنصّل منهما قيادات الحركة، رغم أنّ صاحبها أعلن أنها بإسمه وبإسم الحركة لتنطلق تدوينات وتوضيحات وتبريرات لتصريحات الهاروني التي أغضبت التونسيين بعد أن عبّروا عن دهشتهم من إستماتة النهضة في الحصول على التعويضات في ظرف تعيش فيه تونس على وقع حرب على الوباء خطف أرواح أكثر من 20 ألف تونسي
الغضب الشعبي لم يقف على مطالبة قيادات الحركة بالتعويضات بل تجاوز ذلك، ليحمّل شق كبير من التونسيين النهضة مسؤولية الأزمة التي تعيشها تونس سياسيا وإقتصاديا
أزمة تجلت في مشهد برلماني معطّل أصبح بمثابة حلبة مصارعة بين كتل برلمانية معارضة وأخرى إختارت التحالف مع كتلة الحركة البرلمانية لتكوين حزام سياسي لحكومة المشيشي
صراع الكتل الذي إستمر على مدى أشهر كشف عن سيطرة النهضة وحلفائها في البرلمان الممثلين في "قلب تونس" و"إئتلاف الكرامة" أو كما يصفه التونسيون بـ"باراشوك النهضة" على مشاريع القوانين وجدول أعمال المجلس النيابي والاعتداء على القانون الداخلي، ليصبح الغنوشي رئيس مجلس النوّاب الحاكم بأمره تحت قبّة البرلمان.
البرلمان الذي وُصف من النوّاب أنفسهم ببرلمان الإرهاب واللوبيات وإتهم عدد من النوّاب في جلساته العامة، رئيسه بالعمل على تمرير مشاريع قوانين على مقاس لوبيات خدمة لمصالحها
عيد الجمهورية ... التاريخ الفاصل
الحشود الغاضبة إختارت النزول إلى الشارع للمطالبة بحلّ البرلمان ورحيل "الإخوان" من المشهد السياسي
25 جويلية 2021 عيد الجمهورية في تونس الذي أعلن فيه منذ أكثر من ست عقود عن إلغاء النظام الملكي والاعلان رسميا على النظام الجمهوري، وهو التاريخ نفسه الذي حدّده رئيس مجلس شورى النهضة عبد الكريم الهاروني كمهلة لصرف التعويضات "لمناضلي" الحركة، كان كذلك تاريخا فاصلا في مسيرة الحركة السياسية بعد توجّه التونسيين في كامل أرجاء البلاد إلى مقرّات الحركة وإقتحموها وقاموا بحرق عدد منها تعبيرا عن رفضهم لإستمرار الحركة في المشهد السياسي بعد أن أثبتت فشلها.
في ذلك التاريخ نفسه أعلن رئيس الجمهورية قيس سعيّد عن تفعيل الفصل 80 من الدستور كإجراءات إستثنائية لمدة 30 يوما تمثّلت في تجميد أعمال البرلمان ورفع الحصانة عن نوّابه وحلّ حكومة المشيشي المسنودة من النهضة وحلفائها.
رئيس الجمهورية الذي حذّر في أكثر من مناسبة وأكثر من خطاب بمحاسبة الفاسدين وملاحقة المورّطين في إستنزاف وسرقة أموال الشعب التونسي والتستّر على الإرهاب والارهابيين، أكد بعد إعلانه عن قراراته أنه لا رجوع إلى الوراء وأنه لا حوار مع الفاسدين
النهضة في مأزق
حوار أبدت الحركة بعد قرارات الرئيس عن رغبتها في إجرائه بعد أن تعدّدت البيانات وتصريحات قيادييها وعلى رأسهم الشيخ راشد الغنوشي بضرورة الرجوع إلى "الشرعية الانتخابية"
تصريحات وبيانات في الداخل والخارج تباينت بين الإستعداد للقيام بمراجعات والإعتراف بأخطاء الماضي وبين تهديد مبطّن بمخاوف من حرب أهلية
"شرعية إنتخابية" تطالب بها الحركة تقابلها "شرعية شعبية" عبّر عنها التونسيون بعد خروجهم للإحتفال في الشوارع عقب إعلان سعيّد عن قراراته.
حرب "الشرعية" والخوف من المحاسبة وفتح الملفات خاصة بعد إحالة عدد من النوّاب الذين جُرّدوا من حصانتهم على القضاء وتحجير السفر عن سياسيين ومسؤولين ورجال أعمال وقضاة ووضع آخرين قيد الاقامة الجبرية في إنتظار كشف الحقائق وما سيتبعه من أحكام قضائية قد تطال أسماء بارزة من الحركة أو حلفائها والمقرّبين منها
إجراءات وإن نالت إستحسان شقّ واسع من التونسيين، فإن البعض الآخر إعتبرها غير كافية وطالب بتسريع المحاسبة وتتبّع الفاسدين، فيما رأى آخرون أن ما قام به سعيّد إنقلاب هدفه الإستفراد بالحكم والإنقضاض على السلطة
وفي إنتظار إجراءات سعيّد وفتح الملفات، تجد الحركة التي خرجت منذ سنوات من السرّية إلى العلن بعد الثورة، في مأزق، يرى بعض النهضاويين أن حلّه يقتصر على التضحية بالأب الروحي للحركة وشيخها في سبيل إنقاذ ما تبقى منها، فيما يختار البعض الآخر رفع راية الإستسلام والإنسحاب بالإستقالة من الحركة، ويظل الآخرون يعلّقون آمالهم على المؤتمر الحادي عشر للحركة للتدارك وطيّ صفحة الماضي بأخطائها .