إلى أي حدّ سيترك وباء كورونا بصماته على الجغرافيا السياسية العالمية؟ كيف ستكون عواقبه على العلاقات الاجتماعية والسياسية؟ هل يسدد ضربة قاضية للنهج التعددي المتداعي؟ وهل يصعّد الاستقطاب المتنامي بين الولايات المتحدة والصين؟ وهل يؤذن بعصر الشمولية الرقمية؟
تـشهد دول كبرى منذ سنوات صعود قادة غير ليبراليين يحققون نجاحات إنتخابية من المجر إلى تركيا مرورا بالفيليبين والبرازيل، فهل إدارة هؤلاء "الرجال الأقوياء" للأزمة الصحية سيعطي زخما للتيار الشعبوي؟
قال وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان في مقابلة أجرتها معه صحيفة "لوموند" وتم بثها الإثنين "أخشى أن يشبه عالم ما بعد (الوباء) تماما عالم ما قبله، لكن بمنحى أسوأ".
وأضاف "يبدو لي أننا نشهد تعميقا للفجوات التي يعاني منها النظام العالمي منذ سنوات".
ومن العواقب النادرة التي تبدو مؤكدة للوباء تسارع تدهور النهج التعددي الذي طغى في حقبة ما بعد الحرب العالمية وحتى منتصف العقد الثاني من الألفيّة، تحت ضغط النزعة التوسعية الصينية الممنهجة من جهة والنهج الأمريكي الأحادي في عهد الرئيس دونالد ترامب من جهة أخرى.
ولخص المدير العام السابق لصندوق النقد الدولي، دومينيك ستروس كان موازين القوى الحالية في مجلة "بوليتيك إنترناسيونال" بالقول إن "الولايات المتحدة العالقة بين تمنعها عن القيام بأي تحرك تعددي ومواجهتها مع بكين، ستجد صعوبة في تفادي إعادة توزيع للأوراق، لكن الكثير يتوقف بالطبع على إنتخابات نوفمبر (الرئاسية الأمريكية).
الصين ليست في موقع يخول لها تولي دور الزعامة العالمية، لكن من غير المؤكد أن الولايات المتحدة لا تزال قادرة على ذلك". وكتب معهد البحث الاستراتيجي في مذكرة "يمكن المراهنة على أن أي قطب كبير من أقطاب القوة لن يخرج من الأزمة في موقع أفضل، سواء كدولة أو كنموذج".
وفي هذه الأثناء، يدفع النهج التعددي ثمن الوضع سواء في منظمة الصحة العالمية التي قطعت عنها الولايات المتحدة التمويل، أو في منظمة الدول المصدرة للنفط (أوبك) التي فشلت في الحفاظ على أسعار النفط، أو في مجلس الأمن الدولي الذي "لا نسمع صوته إطلاقا" بحسب ما قالت الباحثة ريجين بيرون مؤلفة كتاب بعنوان "تاريخ التعددية: وهم القرن الأميركي من 1918 إلى يومنا".
لكن ما الذي سينبثق عن هذا التفكك؟ هل تكون النزعة السيادية؟ التعددية بشكل جديد؟ أو اللاليبرالية والشمولية الرقمية؟
يقول زكي العيدي الأستاذ في كلية العلوم السياسية الفرنسية "نحن في حقبة عودة النهج السيادي، وهذه الأزمة ستحض حتما هذه الدول على المضي أبعد في النهج السيادي".
وقالت بيرون لوكالة "فرانس برس" إن "النظرة المتفائلة تقضي بأن نغتنم الوضع لإعادة بناء التعددية على أسس جديدة بحيث تكون مطابقة أكثر لزمننا"، مضيفة "المخرج المثالي هو أن تحل كيانات إقليمية (مثل الاتحاد الأوروبي) محلّ" منظمات أكبر.
يستبعد معهد البحث الاستراتيجي ذلك في مرحلة أولى ويوضح أن "صعود الشعبوية في الحكم قد يتوقف" إذ ستعاقبها الشعوب على عدم كفاءتها و"قلة تعاطفها" مع الضحايا. كما ستطرح مسألة الشمولية الرقمية بعدما إكتسبت شرعية متزايدة بفضل أدائها في مكافحة الجائحة من خلال تطبيقات على الهواتف الجوالة لتعقب المصابين وأنظمة لتحليل البيانات الخاصة.
وكتب يوفال نوح هراري، مؤلف كتاب "سابيانس" (الإنسان العاقل) الذي أًدرج بين الكتب الأكثر مبيعا، في صحيفة "فاينانشل تايمز" في مارس أن "بلدانا كاملة تُستخدم حقل تجارب إجتماعية على نطاق واسع"، مضيفا أن العالم سيواجه خيارا جوهريا بين "المراقبة الشمولية" و"التعويل على حس المسؤولية لدى المواطنين".
وقال "إذا لم نحترس فإن الوباء سيشكل نقطة إنعطاف في تاريخ المراقبة، ليس لأنه قد يجعل إستخدام أدوات المراقبة الجماعية أمرا طبيعيا في دول كانت ترفضها حتى الآن فحسب، بل خصوصا لأنه سيشكل تحولا ملفتا نحو مراقبة تحت الجلد".
وأوضح أنه "حتى الآن، حين كنتم تنقرون بأصبعكم على رابط على هاتفكم الذكي، كانت الحكومة تريد أن تعرف ما هو هذا الرابط. أما الآن، فتريد الحكومة معرفة درجة حرارة إصبعكم وضغط الدم تحت جلدكم".
كما أن الأزمة ستحدث حتما تحولا طويل الأمد في الاقتصاد العالمي نتيجة إستياء بعض الدول التي باغتها الوباء، ما سيعيد إلى الواجهة مفهوم الاستقلالية الاستراتيجية وسيقود إلى التشكيك في عولمة شبكات التوريد ونظرية "الميزات النسبية" التي أثبت عالم الاقتصاد البريطاني ديفيد ريكاردو جدواها في المعاملات التجارية الدولية.
وأوضح الأستاذ في جامعة كليرمون أوفيرنيه برتران فاليورغ أن "هذه الرؤية الريكارديّة (نسبة إلى عالم الاقتصاد االبريطاني ديفيد ريكاردو 1772-1823) للتجارة الدولية حفزت على تطوير شبكات قيم عالمية للقرن الواحد والعشرين".
ورأى في نشرة "ذي كونفرزيشن" الإلكترونية أن "الأزمة المالية عام 2008 تسببت بإنكفاء في ديناميكية تطوير سلاسل القيمة العالمية، أما وطأة أزمة كوفيد-19، فستكون أعمق وأكثر إستدامة"
وإعتبر أنه "على أوروبا أن تعزز قدرتها على الصمود وتطور قواها الخاصة من خلال سلاسل قيمة تبقى بقسمها الأكبر من داخل أوروبا، تحميها سوق مشتركة وتشكل أفق سيادة يتم تأكيدها والدفاع عنها".
*المصدر: موقع أحوال تركية