تميزت مرحلة 1989-2010 إجمالاً باتفاق القيادات المركزية للاتحاد العام التونسي للشغل مع النظام السائد؛ وذلك من خلال إبرام اتفاقيات حول الزيادة في الأجور كل ثلاث سنوات، وتطوير القوانين الأساسية، ودخل الاتحاد في هدنة غير معلنة مع نظام زين العابدين بن علي الاستبدادي حفاظًا على وجوده وهياكله، وإن ابتعد عن ممارسة دوره "المعتاد" ؛ فلم يكن النقابيون بعيدون عن العمل الوطني العام إذ استمرَّ الاتحاد في ممارسة نضاله النقابي العام اذ تشير البيانات المتوفرة أن عدد الإضرابات التي تمت باشراف قيادة الاتحاد العام التونسي للشغل قد ارتفع من 382 (عام 2007) إلى 412 (سنة 2008) ليتراجع إلى 361 ( في 2009)، أما الإضرابات غير المسبوقة بتنبيه فتمثل قرابة 80 في المائة من جملة الإضرابات خلال السنوات الثلاثة المعنية .كما عرفت البلاد خلال تلك الفترة تزايدا في عدد الاعتصامات التي نفذها العمال في المؤسسات من 27 إلى 28 ليصل إلى 36 اعتصاما.أما القطاعات التي شملتها تلك الإعتصامات فكانت النسيج والملابس، والصناعات المعدنية والميكانيكية والسياحة
مواقف قيادة الاتحاد من الانتفاضة وما مجرياتها
اصدر المكتب التنفيذي للاتحاد العام التونسي للشغل بيانا يوم 21 ديسمبر 2010 أكد فيه أنّ الشغل حقّ مشروع تضمنه كلّ التشريعات والمواثيق والمعاهدات الدّولية ويؤمّنه دستور البلاد، وأنّ معالجة قضية التشغيل، في إطار تمشّ قوامه العدل والإنصاف بين كافّة الجهات تعدّ من الحلول الأساسية التي في اعتمادها قضاءٌ على مظاهر الشعور بالحيف، ولما قد يتأتّى عنه من ردود فعل عفوية يمكن أن تؤدّي إلى مآس اجتماعية يعسُر تطويقها.جدّد التأكيد على ضرورة تجنّب الحلول الأمنية في تطويق بعض مظاهر ردود الفعل العفوية في مواجهة البطالة، وعلى ضرورة فتح حوار جدّي وبنّاء من أجل تنمية مستدامة تقوم على التلازم بين البعدين الاقتصادي والاجتماعي.كما دعا إلى اعتماد حلقات حوار جهوية ووطنية للقضاء على عوامل التوتر ([1]).
وبعد تطور الأحداث أوفد المكتب التنفيذي عضوين لمتابعة الوضع بهدف "الاتصال بالسلط الجهوية وبالنقابيين لتوجيههم تجنبا لمزيد التوتر و درءا لما قد ينجر عن هذه الحركة العفوية من تداعيات" وأكد بيان المكتب التنفيذي في بيانه الثاني حول الأحداث على نفس القضايا التي وردت في البيان الأول. كما دعا السلطة لاتخاذ إجراءات آنية في اتجاه تفعيل القرارات الرئاسية المتعلقة بتشغيل شاب في كل أسرة يزيد عدد العاطلين فيها عن ثلاثة وضرورة تركيز استثمارات طويلة المدى ..وطالب بإعادة النظر في هيكلية الاقتصاد استجابة لما أصبحت تشهده البطالة من تغيّر في هيكلتها بعد أن أصبح محورها العاطلين عن العمل من حاملي الشهادات العليا ومراجعة آليات الانتداب في اتجاه مزيد من الشفافية والوضوح والعدالة، وتجبا لما يعتري بعض الشباب من شعور بالغبن والحيف والإحباط كما دعا إلى إحداث صندوق للتامين عن مواطن الشغل والعمل على تفعيل الآليات المتعلقة بإعادة إدماجهم في الدورة الاقتصادية،وطالب باعتماد إعلام مقنع، وفتح حوار عاجل حول القضايا العالقة([2]).
وبعد تمدد الأحداث جغرافيا إلى محافظة القصرين وبقية المناطق اجتمع المكتب التنفيذي واصدر بيانا عبر فيه عن تضامنه المبدئي مع أهالي سيدي بوزيد وسائر الجهات الداخلية في طموحاتهم المشروعة نحو واقع أفضل وطالب ببعث صندوق للبطالة يحمي المسرحين من العمال ويمكنهم من دخل أدنى يخول لهم تلبية حاجياتهم الأساسية.كما عبر المكتب عن استيائه من محاصرة دور الاتحاد ومقراته من قبل الأجهزة الأمنية وعن مساندته للمحامين ولكل مؤسسات المجتمع المدني في دعمهم لأهالينا في سيدي بوزيد كما عبر البيان مجددا عن استياء المكتب من غياب الإعلام الوطني عن الأحداث الأخيرة([3]) . وعبر المكتب في اخر بيانه على أن التفاوض حق مشروع دوليا ومحليا وأن الإضراب يعد جوهر الحقوق والحريات النقابية ودعا سلطة الإشراف إلى التفاوض الجادّ والبنّاء مع النقابات وكافة القطاعات مجددا المطالبة بإرجاع المطرودين من مساجين الحوض المنجمي وطي صفحة الماضي .ولأول مرة،منذ سيطرة بن عليّ على السلطة، دعا المكتب التنفيذي للاتحاد إلى إصلاحات سياسية "قوامها تعميق الديمقراطية ودعم الحريات والى تفعيل دور الرابطة التونسية لحقوق الإنسان ويؤكدون ضرورة تمكينها من عقد مؤتمرها في ظل احترام استقلالية قرارها"([4]).
وأدانت الهيئة الإدارية الوطنية للاتحاد بشدة في اجتماعها المنعقد يوم 11 جانفي 2011 إطلاق الرصاص على المتظاهرين وقتل المواطنين الأبرياء في عدد من الجهات وباقتحام الاتحاد الجهوي للشغل بالقصرين وطالب الاعضاء بضرورة تشكيل لجنة لتقصي الحقائق من اجل محاسبة كل من أطلق الرصاص الحي على المتظاهرين وبالسحب الفوري لفيالق الجيش من المدن والشوارع والى فك كل أشكال محاصرة الأمن لبعض المناطق وعبروا عن دعمهم للجهات المتضررة وتضامنهم مع اسر الضحايا وعن إقرارهم حق الهياكل النقابية الجهوية الدخول في تحركات نضالية احتجاجا عما لحقها ولحق المواطنين من أضرار مختلفة وذلك بالتنسيق مع المكتب التنفيذي للاتحاد([5]).
كان دور الكوادر الوسطى في "الاتحاد العام التونسي للشغل" محوريا في الثورة التي اندلعت منذ أواسط شهر ديسمبر. ودفعت بعض قيادات النقابات القطاعية والجهوية المركزية النقابية لاتخاذ مواقف مساندة لشباب الجهات المنتفضة.وتميزت تلك المواقف باستقلالية أكثر مما كان عليه الأمر قبل الأحداث([6]). وتمكنت بعض النقابات القطاعية مثل نقابتي التعليم الأساسي والثانوي، التي تعتبر من أكثر النقابات استقلالية وأكثرها جرأة داخل الاتحاد العام التونسي للشغل، من المساعدة على تنظيم العمال العاطلين عن العمل ومن بينهم الكثير من حاملي الشهادات العليا. وبعد اندلاع الانتفاضة بادرت نقابات التعليم للتجمع أمام المقر الرئيسي للاتحاد(ساحة محمد عليّ )صباح يوم السبت 25 ديسمبر بحضور مكثف للشرطة التي ضربت طوقا أمنيا وأغلقت منفذي الوصول للساحة لمنع النقابيين والجماهير من تجاوز المنافذ المؤدية إلى الشارع الرئيسي بقلب العاصمة. وفي يوم الأحد 26 ديسمبر، نظم النقابيون أمام مقرات فروع الإتحاد في أهم المدن الداخلية تجمعات للتضامن مع سكان سيدي بوزيد ودعت مجموعة من النقابات العامة و الجامعات النقابية التابعة للاتحاد العام التونسي للشغل إلى تجمع تضامني مع أهالي سيدي بوزيد يوم 27 ديسمبر 2010.
أما النقابة العامة للتعليم الثانوي فلم تنتظر موعد الاضراب الذي قرره القطاع ليوم الخميس 27 جانفي و دعت في بيان أصدرته يوم 5 جانفي كافة الأساتذة في جميع معاهد البلاد إلى تنظيم وقفة إحتجاجية يوم 7 جانفي 2011 لمدة 20 دقيقة انطلاقا من الساعة العاشرة صباحا و ذلك مساندة للاحتجاجات الشعبية التي عمّت كافة أنحاء البلاد و خاصة في ولايات سيدي بوزيد و القصرين و الكاف.. كما تجمع النقابيون منتصف يوم 8 جانفي 2011 بساحة محمد عليّ للتعبير عن سخطهم للأساليب الوحشية التي اعتمدها النظام تجاه المنتفضين من جهة والتعبير عن تضامنهم مع المنتفضين والمطالبة بإطلاق سراح المساجين.
لم يكن من السهل على القيادة المركزية اتخاذ قرارا بالإضراب العام احتجاجا على ما يجري في البلاد من قتل وتدمير،فتلك القيادات كانت مهادنة للسلطة في اغلبها إما خوفا من سطوة النظام أو استجابة لإغراءاته. فمنذ مؤتمر سوسة سنة 1989 انخرطت العديد من القيادات المركزية للاتحاد في وَحَلِ السلطة بل وفي فسادها، غير انه وأمام الظرفية الصعبة والخطيرة التي كانت تمر بها البلاد، وتحت الضغط المتواصل للأحداث و للكوادر النقابية الوسطى لم يكن أمام تلك القيادة إلا الإذعان للأمر الواقع، فاتخذ أعضاء الهيئة الإدارية للاتحاد المجتمعين يوم 11 جانفي 2011 قرارا يسمح لكل جهة باتخاذ قرار الإضراب في اليوم الذي يناسب ظروف منطقته، احتجاجا على إطلاق الرصاص الحي على المواطنين العزل بكل من سيدي بوزيد والقصرين، وبذلك ستنطلق إضرابات عامة في كامل البلاد في أيام مختلفة لكنها متتالية كمحاولة للهروب من الإضراب العام في يوم محدد في كامل البلاد.
كان الاتحاد الجهوي للشغل بسيدي بوزيد قد سبق قرار الهيئة الإدارية و أعلن في وقت سابق إضرابا جهويا عاما يوم 12 جانفي، ثم أسرعت بقية الاتحادات الجهوية في تحديد مواعيد إضراباتها:بنزرت وقابس ومدنين..أما جهة صفاقس، التي تعتبر أهم جهة من حيث ثقلها السكاني والاقتصادي والنقابي، فأعلنت الاضراب العام ليوم 12 جانفي تحت شعار "الدفاع على حق الأهالي في الشغل والكرامة والعيش الكريم" وضمت المسيرة التي أعقبت الإضراب أكثر من مائة وثلاثون ألف فردا(130). ومساء يوم 13 جانفي أعلن بيان للاتحاد العام التونسي للشغل أن "ما يحدث في تونس هو ثورة شعبية وأن الرئيس زين العابدين بن علي هو الذي يتحمل المسئولية" وأضاف أن "مبادرات السلطة جاءت متأخرة، نافيا في الوقت ذاته أن يكون من ينفذ أعمال الحرق والنهب ينتمي للمحتجين".
وكانت تلك كلمة السرّ للثورة فمن الغد أي يوم الجمعة 14 جانفي كان إضراب الاتحاد الجهوي بتونس العاصمة(اكبر الاتحادات الجهوية حجما وفعلا) أين امتلأت ساحة محمد عليّ، منذ الساعات الأولى بالنقابيين من جهات تونس الكبرى(أربع محافظات اكبر ثقل نقابي)و تحدى النقابيون الحواجز التي وضعها رجال الأمن و ساروا في الشارع الرئيسي للعاصمة والتحم معهم آلاف من الناس من كل الأعمار والفئات وانتصبوا أمام وزارة الداخلية مرددين شعار مركزيا:ارحل بن عليّDégage ben Ali فكان ذلك اليوم الأخير للطاغية الذي ترك البلاد هاربا في مساء نفس اليوم.
------------------------
[1] - بيان المكتب التنفيذي للإتحاد العام التونسي للشغل المجتمع يوم الثلاثاء 21 ديسمبر 2010، عبد السلام جراد الأمين العام للإتحاد العام التونسي للشغل.http://ugtt.org.tn
[2] - الاتحاد العام التونسي للشغل، بيان صادر عن اجتماع المكتب التنفيذي المنعقد في 28 ديسمبر 2010
[3] - الاتحاد العام التونسي للشغل،بيان الهيئة الإدارية الوطنية المجتمعة يوم الثلاثاء 4 جانفي 2011
[4] - المرجع نفسه والبيان ذاته.
[5] - الاتحاد العام التونسي للشغل،بيان الهيئة الإدارية،تونس في 11 جانفي 2011 رئيس الهيئة عبد السلام جراد
[6] - من العوامل المهمة التي ساهمت في موافقة المركزية النقابية التونسية على تلك شنّ الإضرابات الجهوية موقف الكنفدرالية الدولية للنقابات التي دعت في بيان لها اليوم السبت 01 جانفي 2011 ، السلطات التونسية إلى إيقاف القمع الشرس ضد المتظاهرين المطالبين بإجراءات ملموسة في مجال التشغيل ، وطلبت النقابة من السلطات التونسية أن تشرع في حوار جدي مع الإتحاد العام التونسي للشغل من أجل معالجة الأزمة الاجتماعية المتفاقمة التي تواجه البلاد .واتهمت الكنفدرالية البوليس التونسي باستخدام الرصاص الحي في حالات كثيرة ضد المتظاهرين المطالبين بإجراءات مباشرة وملموسة ضد البطالة وضد الفساد وكذلك من أجل احترام الحقوق الأساسية . و تهتم الكنفدرالية بالدفاع على حقوق العمال في العالم ومقرها في العاصمة البلجيكية بروكسل، و تضم 176 مليون عامل عبر العالم ، ينحدرون من 151 دولة ولديها 301 منظمة أعضاء في أنحاء العالم.بالإضافة إلى المواقف الدولية:الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة..