نشرت وكالة " الأناضول " اليوم، الجمعة 27 ديسمبر2019، تقريرا عن "نساء القصب بالقيروان"، جاء فيه :
متحدّية الطقس المتقلب صيفا وشتاء، وسنواتها التي تناهز السبعين، تفترش مريم الفطناسي الأرض في ورشتها الصغيرة وسط غابة أشجار "الكينا" بإحدى قرى محافظة القيروان التونسية.
وتواصل مريم عملها الذي تبدأه صباحا إلى غروب الشمس مستعينة برغيف وزيت الزيتون، يؤنسها إبريق الشاي المعتاد.
وتقع ورشة مريم بقرية "المتبسطة" بالقيروان وسط تونس، على جانب الطريق الرابط بين العاصمة والجنوب، أين ظهرت منذ سنوات، ورشات مفتوحة بين الأشجار الباسقة، تختص في صقل وبيع قصب "الشنشان" الذي يزدهر نباته وسط المستنقعات المحيطة بالمنطقة. وعادة ما يستخدم قصب "الشنشان" لإنتاج زيت الأوتونيل الحيوي المولد للطاقة، لكن يقتصر استعماله في تونس على الأنشطة الزراعية والحرفية.
صقل القصب
تغمرها أكوام القش القصب من كل جانب، تمرر مريم سكينها الحاد على سطح القصب الجاف، لتنزع القش والبراعم وتحوله إلى قصبة مصقولة صالحة للاستخدام.
بدت وكأنها في صراع مع الزمن، تسحب كومة القصب التي تحاصرها في جلستها وتمرّر الواحدة تلو الأخرى غير مبالية بالعدد، فثمن صقل الواحدة لا يكاد يذكر.
في عملها، عليها صقل حزمة بـ100 قصبة لتحصل على دينار تستغرق في إنجازها أكثر من ساعتين، وهي العجوز التي أنهكها مرض ضغط الدم والسكري ومشاغل الحياة.
"أعمل هنا منذ 17 عاما"، تقول للأناضول، و"أشرف رفقة زوجي الذي تغيّب اليوم بسبب مرضه المزمن، على ورشة لصقل القصب وبيعه، وهذا مصدر قوتي وقوت عائلتي".
شغلها اليومي لا يشمله التقاعد ولا عطلة المرض المزمن، كما تقول، وعليها أن تعمل بنفسها في ظل صعوبة الظروف الاقتصادية والاجتماعية.
وفي مثل هذه الورشات المفتوحة على جميع المخاطر وتقلبات المناخ والمتاعب، تعمل عشرات النساء وبعض الرجال في صقل القصب.
ويتم استغلال القصب المصقول بأحجام متفاوتة في أنشطة زراعية وسياحية وبناءات ومكونات بعض الصناعات التقليدية، وما يتبقى منه من قش يتحول إلى علف للمواشي.
وتستعين مريم بنساء يصقلن القصب بأيديهن التي تورمت من الخدوش والجروح حتى أنهن لم يعدن يلقين بالا بالجروح الجديدة، فيواصلن استعمال السكاكين وإتمام صقل أعواد القصب الواحدة تلو الأخرى إلى حين تحصيل الأجرة اليومية.
تقول مريم: "تعمل معي بين 4 و8 نساء، إلى جانب توظيف عدد من الرجال في جلب القصب وقصّه مقابل أجرة يومية لا تتجاوز 10 دنانير في اليوم بأحسن الظروف، لا تتناسب مع المتاعب والمخاطر والوقت المخصص على حساب أبنائنا".
وأضافت: "الأجرة ضعيفة ولكننا نحتاجها لتوفير بعض احتياجات العائلة وهي مورد الرزق الوحيد وسط المتاعب واحتياجات الحياة والعلاج والسكن".
ورغم أنها ربة العمل، تقوم مريم بنفس أعمال باقي النسوة وفي نفس الظروف، مع استثناء تحصل عليه بسبب عدم قدرتها على الحركة، فتواصل جلستها طوال اليوم في الصقل ونزع القش.
بانتظار تحسّن الأوضاع
"كنا ننتظر أن تغير الثورة (2011) من وضعنا الاجتماعي وتتحسن المقدرة الشرائية، ونتخلص من الظروف السيئة، وتتحقق التنمية بمنطقة المتبسطة، وتتحسن الخدمات الصحية والبنية التحتية، ولكن الأزمة تعمقت والفقراء ازدادوا فقرا بعد 9 سنوات من الثورة" حسب قولها.
ويتوزع العمل داخل الورشة بين الرجال الذين يجلبون القصب على متن الشاحنات من أماكن بعيدة، ثم يقومون بقصه إلى أحجام محددة، قبل تمريره إلى النساء لصقله وتخليصه من الأوراق والقش والبراعم.
وأغلب النساء العاملات كبار في السن، ممن لا يجدن أي عمل آخر في القرية التي لا توجد فيها ضيعات زراعية أو مؤسسات خدمية، كما أن المصانع المتواجدة بالمنطقة والقريبة من القرية، تعطي الأولوية في التشغيل للشباب من الإناث والذكور.
فخري الفطناسي، شاب عشريني من أبناء قرية المتبسطة، وواحد من آلاف الشبان الذين قام آباؤهم بفصلهم عن الدراسة منذ المرحلة الابتدائية بتعلة الظروف الصعبة والعزلة وعدم توفر مستلزمات الدراسة ومصاريف التنقل.
يقول فخري وهو يتابع بعطف وفخر عمل أمه اليومي وجلساتها وإنحاء ظهرها: "القصب مورد رزقنا الوحيد، ونضطر للعمل جميعا لتوفير قوتنا اليومي.
ويضيف: "الأجرة اليومية ضعيفة ولا تمكن من سد الاحتياجات المعيشية اليومية أو خلاص فواتير الكهرباء والماء".
ولفت فخري إلى أنه انقطع عن الدراسة مبكرا قبل المرحلة الثانوية رغم تفوقه الدراسي، ولم يتمكن من إيجاد فرصة عمل أفضل في المصانع المجاورة.
"العمل متعب"، يقول، و"أشاهد شقاء والدتي طيلة سنوات منذ الفجر الى المساء وهي من يستحق التكريم والتقدير والاهتمام".
قطاع مهمش
لا توجد إحصائيات رسمية عن عدد العاملين في مجال صقل القصب، وسط غياب لأي هيكلة رسمية له، مما يبقيه قطاعا مهمشا رغم مساهمته في توفير مواطن الشغل وارتباطه بالزراعة والغابات والصناعات التقليدية.
غياب الهيكلة والإشراف الرسمي من قبل الحكومية، وعدم إسناد تراخيص وبطاقات مهنية للحرفيين ترك الباب مفتوحا أمام الدخلاء على القطاع الذين ضاعفوا متاعب العاملين بالمجال منذ سنوات، وتركهم عرضة لخطايا مالية وحجز القصب لعدم الحصول على تراخيص.
إبراهيم الفطناسي (خمسيني)؛ حرفي في صقل القصب، توفر ورشته موارد رزق لحوالي 10 أشخاص، طالب بضرورة توفير تراخيص وبطاقات مهنية وتنظيم القطاع من قبل السلطات المعنية.
ويطالب الحرفيون بهيكلة القطاع وتنظيمه ليتمكنوا من الحصول على بطاقات مهنية والتمتع بالتغطية الاجتماعية وبطاقات العلاج، نظرا لخطورة العمل الذي يتسبب في أضرار صحية.
مسؤول بإدارة الصناعات التقليدية بالقيروان فضّل عدم ذكر هويته، قال إنه تم اقتراح فترة تدريب في الحرف التقليدية للناشطين في قطاع صقل القصب، ليتم لاحقا منحهم بطاقات مهنية وإدراجهم ضمن الحرفيين المقدر عددهم بحوالي 28 ألف بالمحافظة.
وأضاف أن عمال القصب اعتبروا أن "فترة التدريب ستكون على حساب عملهم اليومي وحساب قوت يومهم"، رافضين بذلك المقترح.