لعبت بعض وسائل الإعلام التونسية هذه الأيام، دور بوق دعاية لكهنوت يسعى إلى خنق الفكر الحرّ و عرقلة البحث العلمي، تحت تعلّة كاذبة عنوانها الدفاع عن “عرض رسول الله”. وتحوّل الإعلام بذلك إلى محكمة تفتيش لا تقل خطورة عن المحكمة الكنسيّة التي انتصبت لإخماد صوت العالم “قاليلي”.
هذا ما حصل الخميس الماضي حين قبلت قناة تلفزيونية اقتراح مقداد الماجري الحضور في برنامجها في آخر لحظة، بعد أن رفض القائمون على البرنامج الذي سبقه استضافته بدعوى حق الردّ. إذ على ماذا سيردّ المقداد بعد أن اتهم الأستاذة أمال القرامي بالإساءة إلى الرسول و دعا ضمنيا إلى الاعتداء عليها في برنامج بثّ على قناة الاخوان اللندنية، و قد تم فعلا الاعتداء عليها في وضح النهار على قارعة الطريق؟ و هل يجوز، باسم مبدأ التوازن و الحياد، اعطاء الكلمة في نفس الوقت للضحية و الجلاد ليمعن في تأليب المجانين و “السكارى المسلمين” على حد تعبيره، على أستاذة جامعية كذبا و بهتانا؟
على الإعلاميين أن يفهموا أن حث السكان على التّقاتل لا يمتّ بصلة لمجال الرّأي، كما يجب ان يعلموا أن الهدف من هذه الحملة ليس الاعتداء على أستاذة بعينها بل هو تحقيق أهداف استراتيجية خطيرة جدا. و الدليل أنه تم تكفير الأستاذ أحمد الملولي المتفقد العام لمادة الفلسفة مباشرة بعد حادثة أمال القرامي. و قد اشتغل كلاهما على مناهج مقاومة الإرهاب كل في مجاله ومع بلد عربي مختلف.
إن تكفير العلماء اعتمادا على نتائج بحوثهم يسعى إلى تحقيق أهداف ثلاثة على الأقل.
أولا: الترويج لفكرة أن الدستور التونسي لا يجرّم التّكفير و ذلك بهدف الضغط على النواب عشية انكبابهم على اصدار قوانين تفعّل مبادئ الدستور.
ثانيا: احتكار البحث العلمي في مجال التاريخ الإسلامي باسم الاختصاص والحال ان اختصاصهم الوحيد هو ترسيخ ثقافة اخوانية. و بذلك يتم ضرب الحريات الأكاديمية المضمونة في الدستور. وهي حرية أساسية تنسف في غيابها باقي الحريات.
ثالثا: ارساء تقاليد قضاء الحسبة الذي لا يوجد في مدونتنا القانونية مثل ما هو معمول به في مصر، حيث حكم على الباحث المصري الد.حامد أبو زيد بالتفريق بينه و بين زوجته بعد تكفيره. لذلك وجد إخوان تونس في بعض وسائل الإعلام ما يسمح لهم بالقيام بهذا الدور من محاكمة و اصدار أحكام و حثّ المجانين و “السّكارى” على تنفيذها.
يبدو إذن أن مهمة تصحير الفكر انتهت على مستوى التعليمين ما قبل المدرسي و المدرسي و حان وقت مسخ التعليم الجامعي.
لماذا يصحّرون الفكر؟
لأنه يستحيل العيش الرغيد على المستبدّ وسط ضجيج العلم المزعج لاطمئنانه الغبي المتكئ على منهج العنعنة، أي على منهج يفرض عليه تصديق ما يقول شيوخه دون بذل جهد للتثبت و إثراء المعارف. كما أن ضجيج العلم يفضح عورات المستبد و أهمها جهله بأساسيات ايديولوجيته. ألم يتضح أن مقداد الماجري يجهل وجود الحديث الذي اعتمدته الأستاذة أمال القرامي و ادعى أنها مؤلفته رغم لغته العتيقة؟
و ما ذنب الباحثين حتى يدقّ نفير دقّ عنقهم إذا لم يرق للمستبد من عبدة الأحاديث سيرة أو حديث؟ فليدقّوا النفير على واضعي الأحاديث لتنقية المدونة الضخمة التي تحتوي على العديد من الأحاديث المجروحة. أم أنهم يأخذون منها ما يروق لعقليّتهم و ينكرون ما يتعارض مع ايديولوجيتهم؟
لذلك ترى المستبد يسلّ سيف الصّمت على رقاب العارفين حتى لا تصل الحقائق إلى غير العارفين و حتّى لا تسقط جبّة العلم التي يتسربل بها و يصبح الملك عاريا كما يقول الفرنسيون. وهو ما حصل لإخوان تونس خلال انتفاضة نافورة باردو صائفة 2013.
و الحقيقة أنني طرحت الموضوع بهذه الطريقة لأسباب منهجية فقط، لأنه لا يجب على الباحثين الدخول في مثل هذا الجدل لإثبات صحة مصادرهم. فالمناهج العلمية لا تعتمد المصادر فقط، فهي أيضا استقراء و استدلال و استنتاج عقلي منطقي يقوم به الباحث، و يحكم على صحته أو فساده علماء الجامعة المختصين المشرفين على عمله. و لا يحق للمتأدلجين طرحه أمام محاكم التفتيش الكنسيّة و إن خالف قيما دينية أو أخلاقية سائدة. ذلك أن القيم متغيرة بتغيّر موازين القوى السلطوية و بتغّير الوقائع و الزمن. و الباحث أو المفكر رائد ومجدد أو لا يكون، لا يتقيّد بأخلاق أصحاب السلط و لا بقيمهم، بل يلعب دور القاطرة التي تقدّم بالمجتمع وتقطع السّلاسل، خاصة سلاسل الكهنوت التي تكبّل العقل و تسعى إلى تحويل البشر إلى بغال طاحونة لا تعقل سوى ما يسمح به مساحة نظرها المحدود.