لطالما حظيت المملكة المتحدة بسمعة طيبة في مجال إعداد السياسات السليمة، لكنها شهدت في الأشهر القليلة الماضية تقلبات كبيرة. في الواقع، سجلت ليز تراس رقماً قياسياً جديداً، فقد شغلت رئاسة وزراء بريطانيا لأقصر مدة، حيث استقالت بعد 44 يوماً فقط من توليها للمنصب.
وكان الخطأ الرئيسي في سياستها هو ما يسمى بـ "الميزانية المصغرة" التي تم التعجيل بها وتجاوزت التمحيص المعتاد من قبل مكتب مسؤولية الميزانية في المملكة المتحدة. من منظور إعداد السياسات، لم تكن ميزانية تراس "مصغرة" لأنها حاولت إجراء تغييرات كبيرة في السياسات، وتجدر الإشارة إلى أنها تضمنت عجزاً مالياً أوسع بسبب التخفيضات الضريبية غير الممولة.
وتفاعلت الأسواق المالية بقوة مع الانخفاض الحاد فيقيمة الجنيه الإسترليني (الرسم البياني 1) وشهدت عائدات السندات الحكومية البريطانية (السندات الممتازة) ارتفاعاً حاداً. في الواقع، اضطر بنك إنجلترا إلى التدخل لحماية صناديق التقاعد من الإفلاس، فقد كانت لديها مراكز ممولة بالديون تفترض بقاء عائدات السندات الممتازة منخفضة.
نتيجة لذلك، تنحت ليز تراس وتولى ريشي سوناك منصب رئيس الوزراء في 25 أكتوبر 2022، ليمسك مقاليد السلطة في دولة تواجه أربعة رياح اقتصادية معاكسة تتمثل في تشديد السياسة المالية، وتشديد السياسة النقدية، وأزمة الطاقة الآخذة في التطور في أوروبا، بالإضافة نقص العمالة الناتج عن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
أولاً، أعلن رئيس الوزراء سوناك، الذي كان يشغل سابقاً منصب وزير الخزانة (وزير المالية البريطاني)، عن تشديد كبير للسياسة المالية، مما أدى فعلياً إلى عكس مسار جميع التغييرات التي تضمنتها سياسة تراس.
ويسعى سوناك ومستشاره، جيريمي هانت، لتأمين ما مجموعه 50 مليار جنيه إسترليني من خلال الزيادات الضريبية وخفض الإنفاق لموازنة الدفاتر. ومهما كانت التفاصيل التي ينطوي عليها هذا المسعى، فإن الميزانية الجديدة يجب أن تتضمن تشديداً كبيراً للسياسة المالية من أجل إعادة بناء سمعة المملكة المتحدة. ولكن ذلك سيكون له حتماً تأثير سلبي كبير على توقعات نمو الناتج المحلي الإجمالي في المملكة المتحدة.
ثانياً، نظراً لارتفاع التضخم إلى أعلى مستوياته منذ أكثر من 30 عاماً (حوالي 10% في سبتمبر) وضعف الناتج المحلي الإجمالي، فإن بنك إنجلترا مضطر لرفع أسعار الفائدة بقوة.
ومن المرجح أن تتبع الزيادة البالغة 75 نقطة أساس في نوفمبر زيادات إضافية بواقع 50 نقطة أساس في كل من ديسمبر وفبراير، مما سيؤدي إلى ارتفاع أسعار الفائدة إلى أكثر من 4% في عام 2023. وسيتزامن هذا التشديد الصارم للسياسة النقدية مع التشديد المماثل في السياسة المالية المشار إليه أعلاه. لذلك، فإن تشديد السياسة النقدية سيشكل أيضاً عوامل معاكسة كبيرة للتوقعات الخاصة بالمملكة المتحدة، في ظل تعزيز السياسة المالية للسياسة النقدية، بدلاً من موازنة بعضهما البعض.
ثالثاً، أدى الارتفاع القياسي لأسعار الغاز الأوروبية إلى زيادة تكاليف المنتجين، وأسعار المستهلكين، والإنفاق الحكومي من خلال تدابير الدعم، مثل الدعم التبادلي وسقوف الأسعار. لقد أدى الخروج من الاتحاد الأوروبي إلى إعطاء المملكة المتحدة مرونة أكبر في السياسات، مما سمح لها بأن تكون أكثر استباقية في الاستجابة للأزمة، بما في ذلك من خلال التنفيذ الأسرع لتدابير الدعم للأسر والشركات مقارنة بدول الاتحاد الأوروبي. ومع ذلك، لا يزال ارتفاع أسعار الطاقة واستنزاف الموارد المالية الحكومية بمثابة رياح معاكسة للتوقعات الاقتصادية.
رابعاً، يظل جانب العرض في اقتصاد المملكة المتحدة مقيداً بنقص العمالة الذي يعد أحد تداعيات قرار المملكة المتحدة بمغادرة الاتحاد الأوروبي. لقد اعتادت قطاعات الزراعة والتصنيع والخدمات في المملكة المتحدة على وفرة العمالة منخفضة التكلفة التي كانت تأتي من بلدان في وسط وشرق أوروبا.
لكن ذلك تغير مع خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي واستبعاد المملكة المتحدة من سياسة الاتحاد الأوروبي الخاصة بحرية تنقل العمالة. وأدت جائحة كوفيد-19 العالمية إلى تفاقم الوضع حيث تعاني المملكة المتحدة حالياً من نقص حاد في العمالة في العديد من قطاعات الاقتصاد. ويتسبب هذا الأمر بدوره في ضغوط تصاعدية مستمرة على الأجور وبالتالي التضخم أيضاً، على الرغم من ضعف توقعات الطلب.
لذلك، يمثل نقص العمالة رياحاً معاكسة أخرى للتوقعات الاقتصادية في المملكة المتحدة. بشكل عام، يتولى رئيس الوزراء سوناك قيادة بلد يتعرض حالياً للعديد من عوامل عدم اليقين الاقتصادية التي ستستمر في تعطيل العرض والطلب في نفس الوقت. من جهة، سيواجه المستهلكون في المملكة المتحدة انخفاضاً في الدخل المتاح للإنفاق.
ومن جهة أخرى، يتعرض المنتجون في المملكة المتحدة لارتفاع التكاليف ونقص القدرة التنافسية، مما يؤثر على ربحيتهم الإجمالية. عموماً، سيؤثر هذا الوضع سلباً على كل من الاستهلاك والاستثمار، مما يحد من النمو في المملكة المتحدة على المدى القصير إلى المتوسط.