هناك عدد قليل من مؤشرات السوق التي توفر نفس القدر الكبير من المعلومات حول أوضاع الاقتصاد الكلي العالمي الذي توفره التحركات في أسعار صرف العملات الأجنبية.
وينطبق هذا الأمر بشكل خاص على أسواق العملات الأجنبية الرئيسية للاقتصادات المتقدمة، التي تتميز بالعمق والسيولة، مثل الدولار الأمريكي واليورو والجنيه الإسترليني والفرنك السويسري والين الياباني.
وتُعتبر قيم العملات الأجنبية مدفوعة بتدفقات رأس المال، التي تتأثر بردود الفعل الفورية للتوقعات بشأن شهية المخاطرة والأداء الاقتصادي النسبي وفروقات أسعار الفائدة. في الأشهر الأخيرة، ارتفعت قيمة الدولار الأمريكي مقابل العملات الرئيسية إلى مستويات لم نشهدها منذ عقود.
في الواقع، شهد مؤشر الدولار الأمريكي (DXY)، وهو معيار مرجعي تقليدي يقيس قيمة الدولار الأمريكي مقابل سلة مرجحة من ست عملات رئيسية، ارتفاعاً بأكثر من 16% من مستويات ما قبل الجائحة، وبأكثر من 17%في السنة حتى تاريخه، وبأكثر من 27% بالمقارنة مع المستويات المتدنية للغاية المسجلة بعد الجائحة في مطلع عام 2021.
لم تحدث التحركات في قيمة الدولار الأمريكي على منوال ثابت. في بداية الجائحة، كان الدولار الأمريكي مدعوماً بالطلب الكبير من قبل المستثمرين العالميين الباحثين عن"ملاذ آمن". ولكن بعد ذلك بفترة وجيزة، انخفضت قيمة الدولار في غضون أسابيع مقابل العملات الرئيسية، واستمر ذلك لنحو ستة أشهر.
وقد حدث هذا في الفترة بين مايو 2020 ويناير 2021، عندما قدمت الولايات المتحدة حوافز اقتصادية بشكل أسرع وأكبر من الاقتصادات الأخرى. ولكن تلك التحركات عكست اتجاهها بالكامل لاحقاً، مما أدى إلى ارتفاع أكثر حدة في قيمة الدولار الأمريكي مقابل كافة العملات الرئيسية الأخرى.
وهذا يطرح التساؤل التالي: هل الدولار الأمريكي مقيّم بسعر مبالغ فيه؟ إن إحدى الطرق الشائعة لفحص"تقييمات" العملات هي تحليل أسعار الصرف المرجحة بالتجارة والمعدلة حسب التضخم، أي أسعار الصرف الفعلية الحقيقية، ومقارنتها بالمتوسط طويل الأجل أو المعدلات التاريخية.
ويُعتبر مقياس سعر الصرف الفعلي الحقيقي أكثر دقة من أسعار العملات الأجنبية التقليدية لأنه يأخذ في الاعتبار التغيرات في أنماط التبادل التجاري بين البلدان بالإضافة إلى الاختلالات الاقتصادية المتمثلة في التضخم وفروقاته.
تشير أسعار الصرف الفعلية الحقيقية في مؤشر أسعار المستهلك لشهر أكتوبر 2022 إلى أن الدولار الأمريكي مقيّم بسعر مبالغ فيهبنسبة 20% تقريباً بالمقارنة مع متوسطه خلال 20 عاماً. من وجهة نظرنا، فإن الظروف غير مهيأة بعد لحدوث تراجع كبير في قوة الدولار الأمريكي.
وهناك ثلاثة عوامل تدعم تحليلنا.
أولاً، من المتوقع أن تظل شهية المخاطرة منخفضة على خلفية تزايد المخاطر السياسية والجيوسياسية والمخاطر الأخرى التي تهدد التوقعات الاقتصادية العالمية. وذلك يشمل الصراع الروسي الأوكراني والتوترات في الشرق الأقصى والمخاوف بشأن الاستقرار المالي. ومع تأثر ثقة المستثمرين والمستهلكين بالأخبار السلبية، أصبح الدولار الأمريكي أداة "ملاذ آمن" ضد الاضطرابات في أوروبا وآسيا.
ثانياً، تبدو توقعات النمو في الولايات المتحدة أقوى من نظيرتها في الاقتصادات المتقدمة الرئيسية الأخرى. ويبرز هذا بشكل خاص بسبب التأثير غير المتناسب للأزمة الجيوسياسية وأزمة الطاقة الحالية على أوروبا وغيرها من مستوردي الطاقة الرئيسيين. وعادة، يؤدي النمو النسبي الأسرع في الولايات المتحدة إلى تشجيع الاستثمارات داخل الولايات المتحدة، وجذب رؤوس الأموال من الخارج، مما يدعم الدولار الأمريكي.
ثالثاً، فإن أسعار الفائدة الحقيقية المتوقعة، والتي تعمل على تعديل سعر الفائدة متوسط الأجل من خلال مقاييس التضخم الاستشرافية، تتحرك أيضاً في اتجاه داعم للدولار الأمريكي.
ويرجع هذا الأمر إلى تشديد بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي لسياسته النقدية، واحتمال أن يكون التضخم في الولايات المتحدة قد بلغ ذروته فعلاً. في المقابل، ظلت توقعات التضخم تتزايد في منطقة اليورو واليابان، فالبنوك المركزية هناك مقيدة بدرجة أكبر من حيث مدى قدرتها على تشديد السياسة النقدية لمكافحة التضخم، وذلك بسبب ضعف اقتصاداتها وارتفاع مستويات الدين.
وتعتبر فروق أسعار الفائدة الحقيقية محركاً رئيسياً لتدفقات رؤوس الأموال، حيث يسعى المستثمرون إلى تخصيص مواردهم في الأصول ذات العوائد الحقيقية المرتفعة والمعدلة حسب المخاطر.
بشكل عام، قد يبدو أن الدولار الأمريكي مقيّم بسعر مبالغ فيه، إلا أن التوقعات المرتبطة به تظل قوية مع احتمال حدوث ارتفاع إضافي في قيمته بسبب التوترات الجيوسياسية والأداء الاقتصادي القوي نسبياً للولايات المتحدة وعائداتها الحقيقية الأكثر جاذبية. ونتوقع أن تظل قيمة الدولار مرتفعة، حيث يُرجح أن تبقى الاقتصادات المتقدمة الأخرى في وضع أكثر هشاشة.