بقلم: طارق القيزاني
ميثاق الاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا) يفصل بشكل صارم بين عالمي السياسة والرياضة، غير أن الواقع يكشف عن معادلة ترسخت منذ عقود طويلة، وهو أن الفوز بشرف تنظيم كأس العالم يحتاج في المقام الأول إلى ثقل سياسي وعمل ديبلوماسي بالأساس وقبل كل شيء آخر.
بهذه الطريقة تمكنت إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب من خطف تأشيرة تنظيم مونديال 2026 بمعية البلد اللاتيني المكسيك وكندا البعيدة تماما عن خارطة عالم كرة القدم، عبر حملات وسياسات لم تخلو من الابتزاز أحيانا والتهديد المبطن احيانا اخرى.
العالم كله وقف على السياسة اليمينية والصدامية التي انتهجها ترامب بشكل فوري ابان صعوده الى السلطة في ملفات كثيرة ارتبطت بالهجرة والتجارة العالمية والمناخ. ولم تكن الرياضة أيضا بمنأى عن هذه السياسة الشعبوية. كان ملف التنظيم المشترك لمونديال 2026 يسير جنبا إلى جنب مع باقي الملفات والاتفاقات التي يعقدها ترامب في مختلف القارات بهدف نيل الدعم والأصوات المطلوبة. وكانت السياسة التسويقية الأمريكية كلها عمليا تقوم على فكرة "معنا أو ضدنا".
بلا شك لم تكن هذه السياسة وهذا التشابك بين الرياضي والسياسي خافيا عن "الفيفا"، مثلما كان الأمر سائدا منذ ثلاثينات القرن الماضي عندما تصدرت ايطاليا الفاشية أصداء العالم بنيلها تنظيم مونديال 1934 تحت أنظار موسيليني وفوزها المتكرر باللقب في نسختين متتاليتين، وكيف تناوبت تلك الهالة التي رافقت ذروة صعود الفاشية مع تنظيم ألمانيا النازية لأولمبياد 1936 ومن ثم مشاركتها في مونديال 1938 بفرنسا بعد عملية "الآنشلوس"(ضم النمسا)، في الوقت الذي كان العالم يدنو فيه بثبات إلى حرب عالمية ثانية.
كانت الرياضة في خدمة السياسة بشكل دائم والعكس صحيح حتى في فترات السلام. يحدث هذا تحت أنظار الاتحاد الدولي لكرة القدم، أحد أعتى المؤسسات المالية الرأسمالية في العالم وذات النفوذ القوي والمخترق لسيادة الدول، مع انه ما يزال يدعي حتى اليوم وبشكل ساذج الفصل بين السياسي والرياضي.
لقد انتبه الشغوفون بكرة القدم تماما مثل الاعلاميون والساسة الذين حفلت بهم مقصورات الملاعب في روسيا بشكل غير مسبوق في تاريخ المونديال، كيف تمكنت موسكو بشكل حاسم وفعال على مدار البطولة من اعادة التعريف بنفسها للعالم ونزع الصورة التي ارتبطت بتركة الاتحاد السوفياتي العليل والمريض والمتخلف، ما مكنها خلال شهر واحد من ابطال مفعول سنوات طويلة من الحرب الاعلامية الموجهة من الغرب.
لا يرتبط ذلك التحول فقط بالبنية التحتية والتنظيم المذهل والتطور الاقتصادي والتقني الذي عرفه البلد، وقد سبق فيه جيرانه من غرب أوروبا بأشواط كبيرة، ولكن يتعلق الأمر أيضا بمزاج روسيا الحقيقي وانفتاحها على ضيوف العالم والثقافات المتنوعة، وهي صورة تنطوي على مفارقة حادة، إذ تتضارب بشكل كامل مع النزعات اليمينية والشعبوية التي تغزوا في نفس الوقت الحكومات والمجتمعات الغربية.
لم يتأخر الرجل الأول في امبراطورية "الفيفا" جاني انفانتينو في الاشادة بذلك التغير في روسيا، والأهم من ذلك في تقديره هو تغير نظرة العالم إلى روسيا وكيف أن هذا البلد كان مستعدا بأن "يظهر للعالم كله أن الواقع ليس دائما ما نعتقد أننا نعرفه".
اعتمادا على هذه القاعدة قد تمثل أيضا الرياضة وكرة القدم مناسبة حقيقية وتاريخية لدولة مثل قطر من أجل تصدير صورة مختلفة للعالم في مونديال 2022، ليست تلك التي ارتبطت لسنوات بالبلد العابث بالشرق الأوسط وحامل لواء التنظيمات الراديكالية الاسلامية في العالم. المونديال قد يكون حتى عن غير قصد، المناسبة المثلى لإعلان التوبة والتغيير، طالما ان الفيفا لا تزال على ذلك الرأي الواهم والقائل بفصل السياسي عن الرياضي.
لكن الأحلام والطموحات قد تكون اكبر للعالم العربي مع كل الهمس الذي بدر من انفانتينو بشأن فكرة التنظيم المشترك لمونديال 2030 بين دول المغرب العربي الثلاث، المغرب والجزائر وتونس، وهو التنظيم الأكثر استجابة نظريا للمعايير الجغرافية والثقافية والاقتصادية من بين باقي الملفات التي يمكن ان تنافسه في الفوز بالنسخة ذاتها.
ستمكن هذه "الفكرة المشروع" إذا تجاوزت العقبات السياسية، المغرب من استخلاص الدروس من المعارك السابقة لنيل شرف تنظيم المونديال، لكن بدعم أكبر وأقوى هذه المرة من جيرانه، وبجهد سياسي وديبلوماسي دولي مضاعف ومتكاتف.
وتصبح هذه الفكرة ذات جاذبية أكبر لشعوب المنطقة لجهة أن "مشروع المونديال"، وبقدر الدفعة التي سيتلقاها مما تبقى من مؤسسات الاتحاد المغاربي فإنه سيكون مصدر الدفعة ذاتها للفضاء المغاربي من حيث التفعيل النسبي، وان كان على نطاق محدود، لمشاريع البنية التحتية الموحدة ولا سيما في قطاع النقل وحرية التنقل والعمل وهو ما يستدعي آليا العمل ضمن حد أدنى من المؤسسات الاتحادية الفعلية، وهذا ما تدركه "الفيفا" من خلف البطولة ويباركه رجلها الأول علنا.