في الوقت الذي انصب فيه اهتمام البعض على "الهفوات" البروتوكولية التي رافقت زيارة الرئيس التركي رجب طيب اردوغان وتصرفات حرسه الشخصي التي لم تكن مفاجئة لكل من خبر سجل الخروقات التي رافقت زيارات الرئيس التركي إلى أغلب البلدان التي حط رحاله بها وعلى رأسها زيارته الى الولايات المتحدة الأمريكية، وفِي ظل حالة الاصطفاف الفج التي قسمت الوسط السياسي وامتداداته الشعبية إلى مناصر أعمى لـ "السلطان العثماني المظفر" أو معاد راديكالي لرمز حاضنة شتات التيار الاخواني في العالم، وجب التوقف عند اهم النقاط الشكلية والمضمونية التي تضمنتها زيارة اردوغان إلى تونس .
* تجاوزات بروتوكولية ورسائل مسمومة
رغم أن زيارة رجب طيب اردوغان إلى تونس لم تكن "زيارة دولة" بالمفهوم التقني الصريح للأعراف البروتوكولية في زيارات رؤساء الدول، إلا أن غياب كل من رئيس الجمهورية أو رئيس الحكومة عن استقبال رئيس في وزن وحجم رجب طيب اردوغان - سياسيا وجيو استراتيجيا- يعد إشارة سياسية واضحة من الجانب التونسي على ان الزائر ليس في حجم ذلك الذي يستحق الاستثناء وتجاوز محاذير رمزية السياق البروتوكولي، وهي إشارة مقصودة حتمتها على الجانب التونسي فرضيات تأويل زيارة اردوغان على أنها اصطفاف إلى جانب المعسكر التركي القطري الاخواني ضد المعسكر الإماراتي السعودي لا سيما و أن زيارة الرئيس التركي تزامنت مع الأزمة الإماراتية التونسية.
وفِي ظل هذا الظرف المحفوف بالتأويلات الملغومة تعامل الجانب الرسمي التونسي بقدر كبير من الذكاء والمناورة لكبح انتشاء المعسكر الاخواني انطلاقا من فروعه في تونس المتمثلة في حركة النهضة وأنصارها، إلى نقطة ارتكازه في قطر، بإمكانية تأويل زيارة اردوغان إلى تونس على أنها إشارة إلى اصطفاف تونس الرسمية في معسكر تعبيرة الإسناد الاخواني بمختلف تمظهراته، وفِي هذه اللحظة وجد الرئيس التركي نفسه أمام حتمية الاستعراض المشهدي لتعويض "هزيمته البروتوكولية" .
ولعل هذا ما يفسر إشارات "التحرش البروتوكولي" التي اعتمدها اردوغان لاحقا والتي تمثلت في رفضه الحضور في مقر مجلس نواب الشعب متحججا بدواع أمنية رغم ان الحقيقة أنه قد اشترط مرافقة رئيس الجمهورية له وترأسه الجلسة البرلمانية التي عقدت لاستقباله.
وقد تعامل الجانب التونسي بقدر كبير من الذكاء لتجاوز المطب الأردوغاني بترحيل مقر الاستقبال البرلماني لأردوغان الى جناح خاص في قصر قرطاج، رغم ما حف بذلك من محاولة حرس اردوغان استفزاز الطرف التونسي.
هذا الجفاء البروتوكولي الذي جعل مراسم الاستقبال الرسمي للرئيس التركي تقتصر على الحد الأدني المتمثل في إقامة مأدبة غذاء على شرف اردوغان وحرمه وتنظيم زيارة باهتة الى روضة الشهداء.
* حصيلة اقتصادية هزيلة واتفاق عسكري مشروط
من الطبيعي ان تطغى الرسائل السياسية الرمزية التي احاطت بزيارة الرئيس التركي على الحصيلة الاقتصادية التي بدت هزيلة، رغم أن اردوغان قدم مدججا بأكثر من 200 رجل اعمال وفيلقا يضم أهم رجالات الاقتصاد التركي، ورغم أنه كان يستند الى موروث من أرباح الاتفاقات الاقتصادية الذي حصّله من زمن حكم الترويكا ذلك الذي شرّع الأبواب رحبة أمام الشركات التركية لتنهل من عائدات السوق التونسية، وهو ما خلّف عجزا في ميزان التبادل التجاري لفائدة الجانب، بما سبب عجزا تراكميا لميزان المدفوعات التونسي بقيمة تعادل 12062 مليون دينار، وهو ما جعل من تركيا الدولة الثانية في العالم المتسببة في انخرام الميزان الوطني تجاريا بواقع عجز سنوي يناهز في المتوسط 1445 مليون دينار لصالح الاتراك من العملة الاجنبية، وفق معطيات المعهد الوطني للإحصاء و مذكرات البنك المركزي التونسي نهاية سبتمبر 2017.
وقد تدحض هذه الاحصاءات ما كان يروّج، إذ لم تكن تونس و بشكل مطلق وجهة مهمة للاستثمارات التّركية، حيث توجد بها حاليا فقط 20 مؤسسة اقتصادّية نشطة في مجالات متعدّدة و منافسة أساسا و بحدة لقطاعات محورية في الصناعة الوطنية، و لم تمكّن من بعث سوى ألفي موطن شغل، من بينهم مئات الأتراك، بحسب أرقام وكالة النهوض بالاستثمار و التجديد.
وعلى خلاف المتوقع، فقد عمد الجانب التركي الى الضغط بجميع الوسائل من أجل مراجعة القرار التونسي الذي يقضي بوضع آداءات مجحفة على الاستيراد العشوائي للبضائع التركية الذي تم إقراره خلال فترة حكم حركة النهضة.
وقد بلغت درجة الضغط التي فرضها الجانب التركي حد تغيب الرئيس التركي عن ترأس اشغال المنتدى الاقتصادي التونسي التركي.
ولعلّ الملاحظة الأهم تتمثل في تفاصيل الدعم العسكري المشروط، والذي يكمن ظاهريا في اتفاق تعاون مالي وعسكري بين حكومة الجمهوريّة التّونسيّة وحكومة الجمهوريّة التركية يندرج في إطار تدعيم التّعاون العسكري التونسي التركي قصد المساهمة في اعادة هيكلة القوات المسلحة للجمهورية التونسية و يهدف الى تخصيص تركيا منحة مالية للتعاون التونسي التركي - لم يتم تحديد صبغتها في سياق امكانية تحويلها الى قرض – قيمتها مليون ليرة تركية ( حوالي 958 الف دولار أمريكي ) تخصص منها 3.450 مليون ليرة لشراء المعدات و خدمات 3.650 مخصصة لأغراض عسكرية.
إلا أن هذا الدعم العسكري بقي مشروطا بموقف تونس من الصراع الليبي-الليبي ومستقبل ممثلي الإخوان المسلمين بليبيا في خطط التسوية التي اقترحتها تونس ودول الجوار وهي النقطة الرئيسيّة التي تمحورت حولها جولة رجب طيب اردوغان في عدد من دول الجوار الليبي قبل قدومه إلى تونس.